إنّ استشهادًا بالدّم يروي الأرض العطشى، فتزهر قدّيسين، ولا بدّ للدّنيا أن تشهد للحقّ والإيمان. أشرقت في الشّرق الدّيانات الثّلاث التّوحيديّة اليهوديّة والمسيحيّة والإسلام. أينعت وفي أرض العرب، زنابق إيمان ومحبّة ورجاء، ما زال عبقها في ذاكرة الحاضر يعبق بالعيش معًا والشّهادة والاستشهاد، تدفّقت قطرات دم في الأرض حياة. بهذه الرّوحانيّة العابقة بالأصالة والحبّ النّقيّ وسيرة القدّيسين، يروي القرآن مآثرهم مثلما يروي مآثر الأنبياء والمرسلين، فسورة البروج تخبر عن واقعة قتل أصحاب الأخدود (شهداء نجران)، وعلى رأسهم القدّيس حارث بن كعب ورفاقه الشّهداء.
إنّ استقراء الكتاب "شهداء شبه الجزيرة العربيّة اللامنسيّون" استمرار للحياة المسيحيّة في الشرق. وقد ترجمه عن الكتاب الصادر باللغة الانكليزيّة “Unforgotten Martyrs of Arabia: st. Arethas and Companions” الأب الدّكتور الياس عبد المسيح بالتّعاون مع الدّكتورة يولا عازار، وقد أضاف إلى الكتاب مصادر ومراجع جديدة تستحقّ التّقدير نظرًا لمحبّة الأب عبد المسيح ودوره في إقامة مذبحين لهذا القدّيس في لبنان، الأوّل في المعهد الأنطونيّ بعبدا والثّاني في مدينة زحلة.
يقدم الكتاب لمحة عن الحقبة التّاريخيّة الّتي عاشتها شبه الجزيرة العربية، وانفتاحها على محيطها، علمًا أنّ المسيحيّة دخلتها عام 50 مع الرّسول توما وهو في طريقه إلى الهند. وفي زمان حارث بن كعب 427- 523 كان يوجد في شبه الجزيرة ثماني أبرشيّات أهمّها أبرشيّة نجران، مسقط رأس القديس حارث بن كعب، الّذي صار فيما بعد حاكمها وقائدها العسكريّ وقد استمرّ الوجود المسيحيّ حتّى عام ١٠٠٠، أو حتّى القرن الثالث عشر حسب بعد المصادر. أدّت نجران دورًا ثقافيًا واقتصاديًا نظرًا لموقعها الاستراتيجيّ على طريق البخور.
إضافةً إلى الرّحلة الرّوحيّة في سير استشهاد القدّيسين الكبار والصّغار، الّتي يقدّمها الكتاب، يطرح إشكالية مصطلح "الجاهليّة" مؤكّدًا أنّ شبه الجزيرة العربيّة عاشت انتظام المجتمع في المجالات كافّةً، لا سيّما على صعيد اللغة العربيّة الّتي تعبّر عنها الهويّة العربيّة المشتركة. وهي نظريّة كان قد دافع عنها كثير من الأدباء والمفكّرين أبرزهم طه حسين...
لا تكمن قيمة هذا الكتاب في الزّمن الرّاهن من حيث الإضاءة على تاريخ المسيحيّة في العالم العربيّ، بل في زمان الإعلانات الّتي نعت الوجود المسيحيّ في المشرق العربيّ، إحياءً للتّاريخ المشترك من سيرة أولياء الله الّتي تجمع لا شكّ سيرة حياة حارث بن كعب ورفاقه في شبه الجزيرة العربيّة. إذ يعدّ من عوامل تعزيز وتطبيق وثيقة الأخوة الإنسانيّة أوّلًا في البلاد العربيّة المحتاجة بشدّة إلى إبراز القيم الإلهيّة المتجلّية في النّصوص الدّينيّة الدّاعية إلى السّلام والمحبّة، واحترام الآخر ومعتقداته.
بمناسبة المئويّة الخامسة بعد الألف، لاستشهاد حارث بن كعب 523-2023، نستعيد كلماته الأخيرة قبل استشهاده: "أنا مبارك في شيخوختي، أنا في الخامسة والتّسعين، والمسيح علّمني أنّني استحقّ الموت من أجله. أعلم الآن أنّ الله يحبّني لقد أمضيت سنوات عديدة في هذه الحياة الفارغة. لقد أنجبت أطفالًا، ورأيت الجيل الرّابع منهم. أنا واثق من أنّ تذكاري سيبقى في هذه المدينة. وأنا مقتنع بأنّه، بما أنّ الكرمة الّتي يتمّ تقليمها في الوقت المناسب، تعطي ثمارًا جيدة.. أمام الله أقول لكم: هذه الكنيسة الّتي تمّ حرقها... سترتفع".